يعود مصطفى الوَرِياغْلي - في رتاريخ المغرب، مثلما في روايته الأولى "جنة الأرض"- تمتد من أواخر القرن 19، وبالضبط من حرب مارْغَايُّو 1893/1894، ليمرّ بحرب "خندق الذئب"، فيقف مطوّلاً عند معركة أنوال، ثم ينتهي عند ما بعد الاستقلال مع شخصية "الحسن"، التي كانت شاهداً على كثير من الأحداث المسرودة، والتي تُصرّ على أن تحكي وقائع تاريخها المَعيش للحفيد، عبر خطاب دالّ يؤكّد أن التاريخ، مثلما نعلم، له امتداد في الحاضر والمستقبل، لأنه لا يفتأ يؤوّل، خصوصاً إذا قُدّم على شكل عمل ثقافي إبداعي، حينئذ يكون تأويله بصفته رمزاً، كما يقول بول ريكور، أمراً لا مفرّ منه.
وايته "أبواب الفجر" تخييليّاً إلى مرحلة حديثة ودقيقة من
تكشف "أبواب الفجر" ("المركز الثقافي العربي") عن توازٍ بين نصّين: الأول تاريخي مكتوب وشفهي مُفعم بالسرد، والثاني سرديّ صَهَرَ الروائي فيه التاريخيّ، وأعاد بناءه فتخلّق تخييلياً، بمعنى أن الروائي يقدّم نصاً إبداعياً، وفي الوقت ذاته، يقدم تأويلاً للتاريخ، أي حكاية كاملة ومكتملة هي تركيبٌ لأحداث ووقائع متعددة أي "كلّية" وفق تعريف ريكور، تضم المتجانس- المتنافر.
وحريٌّ الاعتراف بتفوُّق التأويل على جفافِ النص التاريخي في التأثير، لأن الأدب لحظة تشرّبه يُقدّم معرفةً، ويُربي أخلاقاً، وينمّي أذواقاً، ولذلك تبقى صوَره راسبة في اللاشعور، بحُكم أنها تسرّبت إليه عبر الالتذاذ بالقراءة، فتلازم القارئ دائماً أبداً، ولا داعي إلى التذكير بأعمال استلهمت أحداث التاريخ، فأصبح نظرُنا إليه من خلالها.
تُقدّم "أبواب الفجر" التاريخَ؛ أيِ الحياة الماضية في شكل حكاية، مُستَعْمِلةً إياها وسيلةً لفهم "الحياة الحالية"، ولهذا فهي في الوقت الذي تقدم فيه قراءةً للتاريخ، تُقدّم اقتراحا جماليا لتشكيل أخلاق ضرورية وعمليَّة تنخرط في بناء المجتمع، كما تتغيّا التعمُّق في تجربة الإنسان، وترومُ سبرَ مكمن الشّر فيه.
يَحْضُر الأدبُ أي "أبواب الفجر" ضمن مشروع تهدئة الإنسان، بالقَبُول به، والاعتراف بكيانه أيضا. وتلتقط الروايةُ رمزيًّا نماذج لهذه التجربة الإنسانية بصفتها تجربة للشر متمثِّلا في المستعمِر ولمُقاومتِه.
تسرد هذه الرواية حكاية أسرة مغربية غادرت أرضها جنوب المغرب مُضطرَّة، واتجهت شمالا لتفد على قبيلة بني بوفرح مُستقرَّةً في الرّيف، محتكَّةَ بقبيلتيْه القويَّتيْن بني ورياغل وبَقُّويَة، ومحميَّةً بالنَّسب الشَّريف وأعراف القبائل، باحثَةً عن حياةٍ جديدة وجيدة وخيّرة. "أيُمكن للإنسان أن يبدأ من جديد؟ أنْ يبني حياتيْن في حياة واحدة؟".
لكن هذه الرواية في الأصل حكاياتُ حيواتٍ لها رواياتٌ، ما كان لها أنْ تُجمَع إلا في قصة. وتتكفَّل كل شخصية بحكاية أحداث فصل من منظورها الخاص، فتتعدَّد وجهات النظر، وتكون الرواية شبيهة بالريزوم أو الجذمور، تلك السّاق النباتية التي تنمو أُفقيَّا (تحت التراب مثل النعناع)، ويظلّ الرابط بينها سرّيا.
إنها حكاياتٌ متجاورة، لكنها غير مُتعاقبة، ولا تَفْرضُ قراءَة زمنية تصاعُدية وحْدَها، بل تتيح ذاتَها لكي تُقرَأ وكأنَّها خريطةٌ، يُمكن الانطلاق في قراءتها من أي ناحية، "بالطبع، في القصة لا البداية ولا النهاية هما بالضرورة بداية الأحداث المروية ولا نهايتها، بل هما بداية الشكل السردي ونهايته". فيكون للقارئ أن يتنقَّل من فصل إلى فصل، دون أن يُؤثّر ذلك في الانتهاء إلى خلاصات وإلى بناء تصوُّرات.
تنجح "أبوابُ الفجر" في المؤالفة، أيضا، بين النثري والشعريّ، فيتوهَّم قارئها بأنه أمام حقيقة تاريخية، وأن ما يقرأه كان حدوثُه على ذلك المنوال. ولعل ذلك ما يُفسِّر الحضور اللافت فيها للذاكرة، فالأخيرة تقبض على الرواية من بدايَتها، فتأخذ الشخصيات في استعادة حكاياتها بدءًا من الطاهر وانتهاء بالحسن، مرورا بأسماء عديدة. فيتأكد أنّ الزمام بيد الذاكرة، وأن الأخيرة أصل التاريخ.
الحقيقة أنَّ "أبواب الفجر" تُيسِّر لقارئها مداخل متنوعة، لعل أهمَّها استهدافها بطريقة شعرية تلفت الانتباه إلى مكانة الفضائل في الحياة الاجتماعية، وإلى السبيل المفضي إلى السعادة، لأنه في النظرية السردية "ليس هناك من قصة محايدة أخلاقيا.
إن الأدب عبارة عن مختبر تجري فيه التقديرات والتقييمات وأحكام الاستحسان والإدانة، وهناك تُستخدم السردية كحقل تمهيدي للأخلاق". إن ما ينكب عليه الروائي هو أن ينشر "فضاء مُتخَيَّلا أمام تجارب فكرية يُمارَس فيها الحكم الأخلاقي بالصيغة الشرطية".
هكذا تكونُ الرواية تحقُّقًا إلى حد كبير للمُثَلّث الأخلاقي، الذي اقترحه بول ريكور، المعروف بالاستهداف الأخلاقي الذي أركانه الثلاثة: 1. التطلُّع إلى الحياة الجيدة والخيِّرة 2. مع الآخرين 3. في إطار مجتمع مؤسسات عادلة.
تروّج "أبواب الفجر" لقيمة العدل، فهذا الزعيم التاريخي لحرب الريف محمد بنعبد الكريم الخطابي يتريَّث مع الرّجل الذي أخبره بأنه يعرف من قتل أباه مسموما، ويُلحّ على أنْ يُلجأ إلى المحكمة وليس الثأر. وتُشيد بالثقة "لكنّ الناس أصبحوا يثقون في قيادتهم، لأنهم لم يُجرّبوا عليهم كذبا أو خيانة أو استئثارا بالسلطة والمصالح، فعلموا أنها إنما تقودهم إلى التحرر والكرامة، فأطاعوا أوامرها، ووجدوا في سلوكها القدوة الصالحة".
وتمتدح قيمتي التضامن والتحمُّل في سبيل "حِفظ الدين والوطن والشرف، فإن كل واحد منهم (الريفيين) يُخرِج خيرَ ما فيه". وتنوِّه بعشق الريفيين للحريّة وعدم رضاهم بأنْ يُستَعْمروا، فالريف آخر منطقة استُعمِرتْ في العالم (1926)، وتُفنّد الخطاب الاستعماري "لا شيء بدون علم. لقد ملكوا بعلمهم البَرَّ والبحر والسماء [...] لا يهمهم تقدُّمنا في شيء".
وتفضحُ النفاق "يجب أن نكسب ثقة الأهالي، يقولون دائما، يجب أن يفهموا أن إسبانيا لا تريد أنْ تنزع منهم أراضيهم أو تستفرد بخيراتهم. نحن لا نريد إلا مصلحتهم". و"لِمَ كلُّ تلك الكراهية والحقد؟ لا أفهم! لم نسئ إليهم. معنا سيدخلون العالم المتمدن، سيفارقون الجهل والقمل والجوع والفوضى. فعلامَ يقتلوننا؟".
يقف قارئ "أبواب الفجر" على أنها ذات رؤية نقدية تلتزم بقضايا مجتمعها وعالمها، فهي لا تقف عند التاريخ، بل تنتقد الحاضر. وإذا كان الورياغلي في "جنة الأرض" قد أعلن عن موهبته الروائية، فإنه في "أبواب الفجر"، يدخل بثقة أكبر إلى المشهد الروائي المغربي.