viernes, 9 de febrero de 2018

الترجمة والأثر مزوار الإدريسي




الترجمة والأثر
20 يناير 2018
·      
·         1
لا شك في أن اللغة أهمّ ابتكار بشري، فبها أَوْجَد الإنسان الأشياء، ونقل تراثه ومعارفه، وصنع هوية لذاته وجماعته؛ ولم يقف الإنسان باللغة عند التخاطب اللغوي، وإنما رام التواصلَ بها والتفاهم، بل إنه طمح عبر استعمالها أداةً إلى التأثير في المخاطَب من أجل إحداث تغيير في مواقفه وسلوكه، وهي ممارسة مألوفة في حياة البشر، ويبدو هذا التأثير في الخطابات المتنوّعة ذا حدة متفاوتة، خصوصاً في الدينية والسياسية منها.
ويستأثر الأدب -بخطاباته المتنوّعة تنوُّعَ أجناسِه- بأكبر حظ من التأثير في متلقيه، ليس على المستمتعين به وحدهم من القراء العاديين، ولكنْ على المُفيدين منه من أدباء مُبدِعين؛ يكون همُّهم ألا يُكرِّروا تجارب غيرهم، فيسعون إلى الاطلاع عليها للإفادة منهم ولاجتراح كتابة تحمل بصمَتهم الخاصة. وتكثر الأمثلة الدالة في هذا المجال، ويكفي أن نستحضر منها حال الشعراء والت ويتمان، وفِدِريكو غارسيا لوركا، وبابلو نيرودا، ومحمود درويش وأثَرَهم في شعراء العالَم لتبيُّن أثر الخطاب اللغوي في سواه.
"
كل من يسعى إلى محو آثار يترك آثاراً أخرى عن غير قصد
"
وجَلي أن الترجمة هي من جهتها فعلٌ لغوي لا يقلّ شأناً عن الخطابات اللغوية الأخرى؛ فبالإضافة إلى أنها -حين اشتغالها بالأدب- تغدو فعلاً إبداعياً بدورها، فإنها تحمل قارئها على التأثّر بها في الوقت الذي يكون يتأثّر فيه بالنص الذي يقرأ. ولعل هذا ما يُفسِّر مطالبة كثير من المنظّرين بضرورة تقيُّدها بالأمانة، بمعنى أن تكون وفية للنص الأصلي في الالتزام بأن تُقدّم للقارئ نصاً يُضارع الأصل، ولا يكتفي باستنساخه فحسب؛ ومن سعي العديد من المترجِمين إلى التقيّد بذلك التوجيه، وادعائهم الحياد.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الصعب أن ننفي عن نماذج لا تُحصى من المترجَمات تصرُّفَها في الأصل بصيغ تراوح بين التقديم والتأخير والحذف والتوسيع والإيجاز وغيرها، ما يُفيد بترك المترجِم أثراً يدل عليه، لأسباب مختلفة.
ويبرز أثر الترجمة أجلى عند تبنّيها استراتيجية التدجين في ترجمة النصوص، ومفادُها حسب الفيلسوف الألماني فريدريش شلايرماخر (1768 - 1834) أن يستقدم المترجِم مؤلِّفاً ضيفاً على لغة غريبة عنه، فينزع عنه غرابَته في تجلياتها المختلفة، ويلبِسَه لبوس الثقافة الجديدة الحاضنة، فيقرأ العربيُّ العجميَّ وكأن الأخير ابن الثقافة العربية بمفرداتها وتراكيبها ومجازاتها ومتلازماتها اللفظية، إلخ، فتنتفي الغرابة عن الأصل، ويصير النص المترجَم حاملاً لبصمة المترجِم مُمثِّلاً لأسلوبه في الكتابة أَكْثَرَ من تقديمه صورة عن المؤلِّف.
هكذا تكون فكرةُ الأثرِ ملازمة للترجمة؛ فمن المؤكّد أن الأخيرة، عند التأمل فيها، تكشف عن كونها أثراً لأصل يرتهن وجودُها إليه، وأن هذا الأصل ذا الهوية المخصوصة لا يبقى على حاله وهو يُستنبَتُ في لغة أخرى، فهويَّتُه الأولى تُمتَلك من قِبَل صوت المترجِم، الذي يُعيد كتابة الأصل فيعيد خلق صورةٍ لمترْجَمِه، "وللعمل، والحقبة، والجنس الأدبي، وحتى أدباً برمّته. ولقد رافقتْ هذه الصور أصولها التي تنافست معها، بل استطاعت هذه الصور الوصول إلى عدد أكبر من الناس مقارنة بالكيانات الواقعية للأصل"، وَفق أندريه لوفيفر. ويمكننا عربياً أن نستحضر، في هذا الصدد، ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي مثلاً، التي حققت لذاتها ذيوعاً لم تَبلُغه أصولها.
لكن مهما اجتهد المترجِمُ في أن يُخفي أثر الآخر، وأن يُبرز أثراً جديداً بواسطة إعادة الكتابة، فإن ترجمتَه لا تتخلص من كونها صدى لأصل، بل إنه بفعله هذا يكشف عن سعيه إلى محو أثر الآخر، وفي ذلك غفلة منه عن "أن كل من يسعى إلى محو آثار يترك آثاراً أخرى عن غير قصد"، كما قال إيمانويل ليفيناس.