lunes, 25 de enero de 2016

نبيل دريوش: غرناطة: مطعم أندلسي للمثقفين...يبعث تاريخ المائدة الأندلسية القديمة من رمادها


غرناطة: مطعم أندلسي للمثقفين
يبعث تاريخ المائدة الأندلسية القديمة من رمادها
غرناطة (جنوب اسبانيا): نبيل دريوش
للثقافة أيضا صحونها الخاصة وتوابلها التي تضفي عليها نكهة تعلق في الذهن مثل وشم قديم، فمعدة الفكر بحر لا يمتلئ إلا بطعام من نوع آخر، هو خليط من اللوحات الفنية والقراءات الشعرية والموسيقى الغرناطية، خصوصا إذا كان كل ذلك مصاحبا لوجبة تجد جذوها في تاريخ الأندلس.
في زقاق يحمل ملامح عربية واضحة، بل على بعد أمتار من قصر الحمراء، اختار مثقف مغربي أن يعيد لغرناطة عروبتها التي فقدتها منذ قرون، فاكتشف أن المعدة هي أفضل سفير يمكنه أن يذكر الغرب بغنى المطبخ العربي الاسلامي واليهودي، ومع صحن وجبة الغداء أو العشاء يقدم صحنا من نوع آخر يروق لنوع خاص من الناس، يجدون لذتهم في تغذية الروح بمشاهدة معرض للوحات الفنية أو الاستماع إلى فرقة أندلسية أو مشاهدة مسرحية أثناء لحظات تغذية الجسد.
يبدو مصطفى أكلاي ناصر فرحا بمشروع مطعمه «ايل تراغا لوث» أو النافذة الصغيرة الذي تردد عليه طيلة السنوات الماضية كتاب اسبان وعرب كبار أمثال الكاتب المغربي الراحل محمد شكري صاحب رواية الخبز الحافي، و«الأديب الخائن» خوان غويتصولو، وسفير اسبانيا السابق لدى اليونسكو خوسي ماريا ريداو، وكاتب مذكرات العاهل الاسباني خوان كارلوس بول بريستون، والمغني الاسباني الشهير خواكين سابينا وشعراء عرب كثيرون قصدوا المطعم من مختلف ربوع العالم العربي، فالمطعم يزخر بصور شخصيات من مطبخ الثقافة العالمي، الذين تناولوا ذات يوم صحنهم الثقافي بعد جولة في أروقة قصر الحمراء وأزقة غرناطة، التي توحي بأكثر من قصيدة ورواية.
ويقول مصطفى أكلاي ان فكرة المطعم جاءته من وحي التقارب بين المغرب واسبانيا الفواحة بعبق العروبة، فقرر أن يبعث تاريخ المائدة الأندلسية القديمة من رمادها، فهو يقدم لزواره، الذين يكونون في غالبية الأحيان من صفوة المثقفين وجبات الطعام اليهودي والعربي والسفردي، فغرناطة كانت مدينة اليهود ايضا، الذين طرودا منها مثل المسلمين.
ويؤكد مصطفى ان للمكان عبقريته الخاصة، لذلك يجد أن هناك علاقة وثيقة بين الطعام والثقافة في غرناطة، فالهجمة التي تعرضت لها الثقافة العربية واليهودية خلال الخمسة قرون الماضية، جعلت الإسبان ينسون هذا التراث العربي، الذي يشكل جزءا من هويتهم، لذلك تحاول بعض المطاعم في عدة مدن اسبانية استرجاع هذا التراث المفقود.
يعيد مصطفى، الذي يعمل في نفس الوقت أستاذا جامعيا بباريس، احياء الثقافة العربية المتوسطية في أذهان زواره، بشكل يحاول قدر جهده أن يبتعد فيه عن الفلكلور، الذي يعتقد أنه يضر بهذا التراث الزاخر بأشياء كثيرة.
ويحكي مصطفى بنشوة ظاهرة كيف أن مطعمه تحول في سنوات حكم اليمين الإسباني إلى ملجأ للفرق المسرحية، التي باتت تستشعر نوعا من التضييق عليها، أو لم تجد مكانا للعرض، وكذا معرض لفنانين تشكيليين يحولون جدران المطعم إلى رواق لعرض لوحاتهم الفنية، فالمطعم يتحول أحيانا إلى سوق عكاظ للشعر أو متحف لوفر صغير.
تساعد مصطفى في المطعم زوجته الاسبانية، التي صارت خبيرة في هذا النوع من الطعام، بعدما قضت أزيد من خمس سنوات في الشمال المغربي وسط عائلات أندلسية مغربية لتتعلم أصول الطبخ الأندلسي وتحاول تطويره، فقائمة الطعام غالبا ما تضم أكلة «البسطيلة» الشهيرة والسمك بمختلف أنواعه ونوعا قديما من السَلطات وقشدة الحليب التي تعود إلى أزمنة الحقبة الأندلسية الجميلة. وبحكم عطشه إلى المعرفة لا يضيع مصطفى فرصة زيارته لعدد كبير من المكتبات الأوروبية، من أجل البحث بين رفوفها عن كتب الطبخ الأندلسي، لأنه يعتقد أن مهمة أحفاد الأندلسيين اليوم لا تكمن فقط في احياء هذا التراث ونشره بين الفئة المثقفة الأوروبية، بل أيضا في تطويره وترك البصمة الحداثية عليه، حتى لا يتحول إلى مجرد مومياء بدون معنى يبتسم السياح فرحا عندما يرونها لأول مرة.